«أعتقد أن الإضراب خطوة قريبة، إذا سألت أي لاعب فسيقول الشيء نفسه. من واقع خبرتي، لاعب كرة القدم مؤهل لخوض 50 مباراة على أقصى تقدير، بعدها سيتراجع مستواه؛ لأنه من المستحيل أن يحافظ على لياقته البدنية».
— الإسباني رودري، لاعب مانشستر سيتي الإنجليزي.
بعد التصريح أعلاه بأسبوعين فقط تعرَّض اللاعب الإسباني لإصابة في الركبة، أعلن ناديه على إثرها انتهاء موسمه الكروي، وبغض النظر عن احتمالية وجود علاقة بين إصابة اللاعب وضغط المباريات، هل يمكن أن يكون حديث لاعب كرة قدم عن الضغط منطقياً بالنسبة للمشجع؟
«بعد إقرار نظام بطولتي كأس العالم للأندية ودوري أبطال أوروبا الجديد أصبح موسم 2024/2025 هو الأطول في تاريخ كرة القدم».
— موقع ESPN البريطاني.
في نوفمبر 2001، هدَّد اتحاد لاعبي كرة القدم المحترفين (PFA) بالإضراب عن لعب المباريات بمختلف درجات كرة القدم الإنجليزية. كما توقعت تماماً، تلخَّص الأمر في الأموال؛ إذ أراد اتحاد اللاعبين الحصول على نسبة 5% من صفقة بيع حقوق بث الدوري البريميرليج التي بلغت آنذاك 1.65 مليار جنيه إسترليني، أي 35 مليون جنيه إسترليني سنوياً، من أجل دعم خطط رفاهية وإعادة تدريب اللاعبين المتقاعدين وذوي الإعاقات.
بعد أيام، وصلت رابطة البريميرليج واتحاد اللاعبين لصيغة تسوية، وانتهت فكرة الإضراب كأنها لم تكن مطروحة. في الواقع، بدت فكرة الإضراب وقتئذٍ مفهومة، لأنها تهدف لإعانة من هم أقل ثراءً، لكن في 2024، نحن أمام حفنة من المدللين الأثرياء، الذين يعلنون على المشاع غضبهم من لعب كرة القدم.
يرى الصحفي الإيطالي جابرييل ماركوتي أنه قبل الخوض في مناقشات حقيقية حول إضراب اللاعبين علينا أن ندرك جيداً أنها ليست حرباً بين الخير والشر، لكنها عبارة عن شبكة مُعقدة من المصالح والأجندات التي يحارب بعضها بعضاً.
على سبيل المثال، في يونيو 2024 أقامت النقابة الدولية للاعبين المحترفين (FIFPRO) دعوى قضائية ضد الاتحاد الدولي لكرة القدم؛ إذ طعنت في شرعية تعديل تقويم المباريات وتوسيع كأس العالم من جانب واحد، فيما كان رد الفيفا أن الأندية والدوريات الأوروبية تتصرَّف وفقاً لمصالحها الشخصية دون اعتبار لأي شخصٍ وتُفضِّل تقويماً مليئاً بالمباريات الودية والجولات الصيفية.
المفارقة هي أنه لحدوث أي إضراب يفترض توافر ثلاثة شروط أساسية: التنظيم والتوحُّد، وجود قضية عامة ذات جاذبية، وأخيراً الشعور باليأس. وطبقاً للوضع الحالي، لا يحقق اللاعبون الذين يشتكون من الضغط شرطاً واحداً من هذه الشروط.
حسب المركز الدولي للدراسات الرياضية، 0.31% فقط من لاعبي كرة القدم يشاركون في أكثر من 60 مباراة في الموسم، ونسبة أقل من 10% تشارك في 40 مباراة. أما البقية الباقية، التي يفترض أن تُقحَم عنوة للضغط لتحقيق مطالب النخبة، فهم أكثر حاجة للمشاركة بدلاً من الراحة؛ لأن كثرة المباريات - بالنسبة لهم - تعني دخلاً أفضل.
مع ذلك لدينا مفاجأة أخيرة، أندية ولاعبو النخبة، حتى وإن كانوا نسبة لا تذكر، هم من يدفعون اقتصاد هذه الصناعة، ومن دونهم قد يصبح أصحاب الأجور الضئيلة بلا أي دخل من الأساس.
بالطبع لا ترفض أندية النخبة لعب مباريات كأس العالم للأندية أو دوري الأبطال بنظامه الجديد، بل تبحث عن تقليص عدد المباريات غير المهمة مثل مباريات الكئوس أو التوقفات الدولية. وعلى الجانب الآخر، لن يتنازل الاتحاد الدولي عن هذه التحديثات لأنها تضمن مداخيل أكبر للهيئة الحاكمة للعبة. وفي المنتصف، نسبة تقل عن 1% من اللاعبين والمدربين المحترفين الذين لهم عقود ضخمة، ومع ذلك لا يخفي أي منهم غضبه من ضغط المباريات، لكن دون المساس براتبه.
حتى تتخيَّل ما آلت إليه الأمور، يُمكننا فقط أن نخبرك بعض الأمثلة:
جود بيلينجهام (21 عاماً) لعب منذ بداية مسيرته أكثر من 18 ألف دقيقة رسمية، هذا الرقم تقريباً هو تسعة أضعاف دقائق لعب ديفيد بيكهام حين كان في نفس عمره.
فيما شارك فينيسيوس جونيور (24 عاماً) في 344 مباراة رسمية، في الوقت الذي شارك فيه رونالدينهو في نصف هذا العدد من المباريات حين كان في نفس عمره. بينما لعب كيليان مبابي 200 مباراة خلال ثلاث سنوات فقط.
بالطبع، تنشر تقارير بشكل دوري حول الأثر السلبي لتكدُّس رزنامة مباريات كرة القدم على صحة اللاعبين الجسدية والنفسية. فمثلاً، شهد موسم 2023/2024 في إنجلترا ارتفاع نسبة الإصابات بما يقدر بـ21.9% عن الموسم الذي سبقه بواقع 655 إصابة أدت إلى غياب اللاعبين عن 3052 مباراة.
في مقال بعنوان: إرهاق الجولات: ماذا يحدث للاعبين عندما تتراكم المباريات، أوضح توم جاكسون، أخصائي العلاج الطبيعي، أن خوض اللاعب لمباراة كل ثلاثة أيام قد يؤدي إلى ما يعرف بتجويف العضلات، ومع تكرار الضغط، تصبح احتمالية التعرُّض لإصابات العضلات والأوتار والأربطة أكبر.
من زاوية أخرى، يعزو جاكسون زيادة معدلات الإصابات في الركبة أثناء فترات ضغط المباريات إلى إجهاد الجهاز العصبي المركزي؛ إذ يؤدي الإرهاق إلى سوء التحكُّم في الحركة أو تقلُّص القدرة على التفاعل بالسرعة الكافية، ما يجعل اللاعب يضع قدمه في موضع يعرِّضها للإصابة دون تدخل خارجي.
وبغض النظر عن معاناة اللاعبين الجسدية أو النفسية، وبشكل برجماتي جداً، ارتفعت الخسائر المادية للدوريات الخمسة الكبرى بسبب الإصابات في 2023 من 553 مليون يورو إلى 704 ملايين يورو بنسبة وصلت لـ 30%.
مع ذلك، يدعي البعض أن الحل بسيط، وهو تحمُّل الأندية مسئولية جشعها عن طريق إراحة النجوم. للوهلة الأولى، يبدو حلاً منطقياً، لكنه على المدى الطويل يهدد بإلحاق الضرر بقيمة المنتج؛ إذ لا يتوقَّع أن تستمر الجماهير في الدفع لمشاهدة عدد متزايد من المباريات ذات الجودة المتباينة.
في مايو 2024، نشر موقع مجموعة بيركلي للتحليلات الرياضية تدوينة بعنوان: هل فقدت كرة القدم إثارتها؟ من خلال تحليل الفترة بين 2017 و2023 بالدوري الإنجليزي الممتاز اتضح أن البريميرليج لا يعاني من تناقص واضح في الإجراءات الممتعة القابلة للقياس؛ مثل الأهداف، المراوغات، التسديدات بعيدة المدى.
في السياق نفسه، كتب مايكل بايلي في ذي أثليتيك مقالاً يحلل من خلاله الشعور العام بتقلُّص قدرة كرة القدم على إمتاع جماهيرها. بالطبع، تظهر هنا ثنائية التحكُّم والارتجال؛ إذ يُرجع كثيرون الملل في كرة القدم إلى ظهور جيل المدربين المتأثر بنجاح بيب جوارديولا ويورجن كلوب، وبالتالي تحوُّل كرة القدم إلى نسخ مكررة من كرة القدم تلعبها جميع الأندية، لكن هذه ليست إجابة شافية بكل تأكيد.
يأمل المشجع دائماً في الحصول على تجربة مشاهدة عالية الجودة، لكن في ظل الزيادة المتنامية لعدد المباريات كل عام يرى جيريمي سناب، طبيب النفس الرياضي السابق لنادي كريستال بالاس، أن طبيعة حياة لاعب النخبة تجعله يبحث عن التأقلم وليس التفوُّق.
يقول سناب: «في أي رياضة، حياة اللاعب عبارة عن فترات قصيرة من التركيز المُكثف ثم فترات من الاسترخاء. على سبيل المثال، يلعب نجوم كرة السلة الأمريكية أكثر من 80 مباراة في الموسم فعلاً، لكن فترة توقُّف الدوري قد تصل إلى أكثر من 3 أشهر كاملة. بالنسبة للاعب كرة القدم، هذه رفاهية لا يمكن أن يحلم بها من الأساس».
حقيقة لا توجد أبحاث حول أثر الضغط طويل المدى على عقل لاعب كرة القدم، لكن سلوكياً الضغط المستمر لفترات طويلة يجعل البشر أكثر ميلاً لتجنب المخاطرة، التي تعد ركيزة أساسية لمفهوم الإبداع في كرة القدم.
من جهة أخرى، يرى سناب أن المدربين ضحية أيضاً، بغض النظر عن النتائج، على المدرب أن يُبقي الجميع لائقاً ومتحفزاً لتقديم أداء وحدَّة مستمرة ومتزايدة لأطول فترة ممكنة، مع تركيز شديد على تقديم أفضل أداء ممكن في المباراة المقبلة.
عند نقطة ما يفشل اللاعب أو المدرب في ضبط هذه المعادلة، لأنه وضع غير منطقي، بالنسبة لأي عنصر من عناصر اللعبة لا يمكن الاستمرار دون أن تتأثر مستويات الأداء بالسلب، ومن ثم مستويات الترفيه لدى المشجع.
عند هذه النقطة فقط يمكن تفسير شعور المشاهد بالملل عند مشاهدة مباراة ما، حسبما يرى دين آشتون، مهاجم أستون فيلا السابق؛ إذ يدخل بعض اللاعبين المباريات بغرض تجاوزها دون إصابة، فيتحول اللقاء الذي يتمناه المشجع مثيراً إلى آخر بلا حياة، يؤديه عناصره بـ 70% من قدراتهم.
في البداية، بدت فكرة إضراب لاعبي النخبة هزلية جداً، لكننا الآن أمام حقيقة واضحة، وهي أن المشجع - الذي يبحث عن مصلحته الخاصة أيضاً - قد لا يكترث إلا بنخبة اللاعبين والمدربين، وقد يتحوَّل الإضراب إلى الأمل الأخير في إنهاء حالة الملل وإخفاء «الأداء الاقتصادي».